فصل: (سورة البقرة: آية 284):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: آية 284]:

{لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}.
{وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} يعنى من السوء {يحاسبكم به اللَّه فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ} لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان: الوساوس وحديث النفس، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما أنه تلاها فقال: لئن آخذنا اللَّه بهذا لنهلكنّ، ثم بكى حتى سمع نشيجه فذكر لابن عباس فقال: يغفر اللَّه لأبى عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} وقرئ: {فيغفر} {ويعذب}، مجزومين عطفًا على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت:
كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش: يغفر، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم، كقوله:
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارِنَا ** تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأجَّجَا

ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، لأنّ التفصيل أوضح من المفصل، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيدًا رأسه، وأحب زيدًا عقله. وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال الثعالبي:

قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ابن أبي جَمْرَةَ: والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه: أولُها الهَمَّة، ثم اللَّمَّة، ثم الخَطْرة؛ وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها، ثم نِيَّة، ثمَّ إرادَةٌ، ثم عَزِيمَةٌ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها. اهـ.

.قال ابن جزي:

فإن قيل: إن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ فالجواب أن النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه فلفظ الآية خبر ومعناها حكم. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وفى سورة آل عمران: {ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وفى المائدة قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وفى سورة الفتح: {ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فورد في هذه الآى الأربع تقديم الغفران وتأخير التعذيب وورد في سورة المائدة: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} بتقديم التعذيب وتأخير المغفرة على خلاف ما ورد في الآى الأربع المذكورة.
فللسائل أنه يسأل عن ذلك.
والجواب عنه والله أعلم أن هذه الآية لما تقدمها قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} ثم بعد ذلك قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم}، فقدم في هاتين القصتين من خبر المحاربين والسارقين أمر تعذيبهم جزاء على فعلهم ثم ذكر المغفرة لهم إن تابوا وأتبع ذلك بقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} الآية وبناؤها على ما تقدمها قبلها ويليها كما تبن فقدم ذكر العذاب على المغفرة لمناسبته لما اتصلت به وبقيت عليه.
وأما الآى الأربع فلم يقع قبل شيء منها ذكر الواقع في سورة المائدة وإنما تقدمها ما يفهم قوة الرجاء لمن أحسن وأناب كقوله تعالى في آية البقرة: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} والخطاب للمؤمنين وورد قبل الآية الثانية من الأربع قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}، وقبل الثالثة: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} الى قوله تعالى: {بل أنتم بشر ممن خلق}، وفى هذا وإن كان خطابا لأهل الكتابين تنبيه لهم وأنهم إن أسلموا وأنابوا لربهم رجوا عفوه ومغفرته وقبل الآية قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}، ولم يخرج الكلام إلى غير هذا من تعريف نبيه صلى الله عليه وسلم بعلي حاله وما منحه والإعلام بحال المخلفين من الأعراب وما جرى في ظنهم وكل ذلك تثبيت للمؤمنين ومنبئ بما تعقبهم الاستجابة لله ولرسوله ثم أتبع ذلك بالإعلام بأنه سبحانه المالك للكل والمتصرف فيهم بما يشاء فقال تعالى: {ولله ملك السماوات والأرض} وأفهم ذلك أن فعل المخلفين من الأعراب غير خارج عما أراده وقدره وأن مخالفتهم لا تضره تعالى وأنها صادرة عن قضائه فناسب هذه الأربع بجملتها تقديم ذكر المغفرة وجاء كل على ما يناسب والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

اعلم أن الخواطر أربعة: ملكي ورباني ونفساني وشيطاني، فالملكي والرباني لا يأمران إلا بالخير، والنفساني والشيطاني لا يأمران إلا بالشر، وقد يأمران بالخير إذا كان فيه دسيسة إلى الشر، والفرق بين النفساني والشيطاني: أن الخاطر النفساني ثابت لا يزول بتعوذ ولا غيره، إلا بسابق العناية، بخلاف الشيطاني: فإنه يزول بذكر الله، ويرجع مع الغفلة عن الله. والله تعالى أعلم. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}.
احتجوا بها على أنّ أعمال العباد مخلوقة لله لأنّها مما في السماوات وما في الأرض.
واحتجّوا بها على أن السّماء بسيطة إذ لو كانت كروية لكانت الأرض مما فيها ولم يكن لقوله: {وَمَا فِي الأرض} فَائِدَة؟
وأجيب: بأن ذكرها بالمطابقة أولى من ذكرها بالتضمّن والالتزام، لأنها مشاهدة مرئية، ومذهب المتقدمين أنها بسيطة ومذهب المتأخرين أنها كروية.
قال الغزالي في النّهاية ولا ينبني على ذلك كفر ولا إيمان.
قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}.
من إقامة المسبب مقام سببه لأن المحاسبة عليه متسبّبة عن العلم به أي يعلمه الله فيحاسبكم عليه، وما في النّفس إن كان وسوسة وترددا من غير جزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وإن كان على سبيل الجزم والمواطأة عليه فإما أن يكون له أثر في الخارج أو لا.
فإن كان قاصرا على نفس الإنسان ولا أثر له في الخارج كالإيمان والكفر خلاف في المؤاخذة، وإن كان له أثر في الخارج فإن تمّ بإثره فلا خلاف في المؤاخذة، كمن يعزم على السرقة ويسرق أو على القتل ويقتل، وإن عزم عليه في نفسه ورجع عن فعله في الخارج فإن كان اختيارا لغير مانع فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، بل ذكروا أنه يؤجر على ذلك كما في بعض طرق الحديث: إن تركها «مأجور»، وإن رجع عنه لمانع منه ففي المؤاخذة به قولان.
هذا محصول ما ذكره القاضي أبو الفضل عياض في الإكمال: «إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها» الحديث ذكره مسلم في كتاب الإيمان.
قال ابن عرفة: والكفر خارج من هذا لقول الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاءُ} وحكى ابن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة أنها لما نزلت قال الصحابة: هلكنا إن حوسبنا بخواطرنا.
فأنزل الله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فمنهم من جعلها ناسخة.
وضعفه ابن عطية لأنه خبر فلا ينسخ.
قال لكن ورد أنهم لما قالوا: هلكنا، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فقالُوا فنزلت {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا} فصح النسخ وتشبه الآية حيئنذ قول الله تعالى في الأنفال: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} ثم نسخت بصبر المائة للمائتين.
قال ابن عرفة: آية الأنفال ليس فيها إلا النسخ لأنّه رفع كلّ الحكم {وآيَتُنَا} هذه تحتمل النسخ والتخصيص كما قال بعضهم.
قال ابن عرفة: ونظير الآية ما خرج مسلم في كتاب الإيمان عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أيّنا لم يظلم نفسه فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}».
قال ابن عرفة: وذكر الفقهاء الخلاف إذا شهد شاهدان لرجل بشيء مظروف في شيء وماتا أو غابا هل يكون له الظرف أم لا؟ قالوا: إن كان الظرف من ضرورياته لا يمكن أن يجعل إلا فيه كالزيت والخل فهو له بما فيه باتفاق.
وإن لم يكن من ضرورياته كجبّة في صندوق أو في صرّ ففي كون الظرف له خلاف.
وذكره ابن الحاجب في كتاب الإقرار قال فيه ما نصه: وثوب في صندوق أو منديل ففي لزوم ظرفه قولان بخلاف زيت في جرة، وجبة وبطانتها، وخاتم وفصه، أي يقبل قوله.
قال ابن عرفة: والآية حجة لمن يقول شهادتهما بالمظروف يستلزم الظرف لأن كون {لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يستلزم أن السماوات نفسها له.
قَال ابن عرفة: الآية حجة أيضا لمن يقول: إن الطلاق بالنية لا يلزم عندنا وفيه خلاف والمشهور أنه غير لازم.
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ}.
قال الزمخشري: وقرئ: {فَيَغْفِرْ} بالجزم في جواب الشرط.
ورده أبو حيان بأن النحويين نصّوا على أن الفاء إنما تنصب في الأجوبة الثمانية ولم يعدوا منها الشرطية.
فجعله معطوفا على مصدر مقدر فيكون من عطف الفعل على الاسم الملفوظ به.
ونص الشلوبين على أنّ قول النحويين الأجوبة الثمانية ليس على ظاهره بل مرادهم كل ما ليس واجبا أعني ما ليس بخبر فيدخل فيه الشرط.
وتحامل الزمخشري هنا وأساء الأدب على السوسى من طريق أبي عمرو وخّطأه كما خطّأ الصيمري في تبصرته والزّجاج وكذا خطأ ابن عامر في قراءته {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ولكن تخطئته هنا لأبي عمرو من طريق السوسي أشنع.
قال ابن عطية: هنا عن النقاش: فيغفر لمن يشاء أي لمن ينزع عنه، ويعذب من يشاء أي من أقام عليه. قال ابن عرفة: وهذا نحو ما قال الزمخشري، وفيه إيهام الاعتزال.
قلت: لأنه يوهم أنّ المعاصي لا تغفر إلا بالتوبة ومذهب أهل السنّة أنه يجوز أن يغفر له وإن لم يتب منها إلاّ الكفر.
قوله تعالى: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قال ابن عرفة: لفظ شيء يطلق على المعدوم والموجود فأفاد أنّه على كل شيء مما في السموات والأرض ومما هو خارج عنهما قدير.
قال والفضاء الذي بين السماء والأرض تقول إنّه عامر وإنه خارج عنها وهي مسألة الخَلاء والملاء ونقول: تناولت الآية الأمر الحالي والماضي ونفي المستقبل غير داخل فيها فلذلك قال: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ليدخل المستقبل. اهـ.